بسم الله الرحمن الرحيم
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }البقرة260
هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في العشر الأخير من سورة البقرة, وهي سورة مدنية, وآياتها ست وثمانون ومائتان(286) بعد البسملة, وهي أطول سور القرآن الكريم علي الإطلاق.
هذا, وقد سبق لنا استعراض سورة البقرة, وما جاء فيها من ركائز العقيدة, وأسس العبادة, ومكارم الأخلاق, والتشريعات, والقصص, والإشارات الكونية, ونركز هنا علي ومضة الإعجاز التاريخي والعلمي في حوار إبراهيم مع ربه عن قضية إحياء الموتي.
من أوجه الإعجاز العلمي والتاريخي في الآية الكريمة :
يروي لنا القرآن الكريم عن حوار وقع بين رب العالمين وعبده ورسوله إبراهيم ـ عليه السلام ـ فيقول: وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتي قال أولم تؤمن قال بلي ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل علي كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم( البقرة:260).
ومن معاني ذلك أن أبا الأنبياء إبراهيم ـ عليه السلام ـ سأل الله ـ تعالي ـ أن يبصره بكيفية إحيائه الموتي, وسؤاله هذا ليس من قبيل الشك, ولذلك قال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم: نحن أحق بالشك من إبراهيم, إذ قال رب أرني كيف تحيي الموتي, قال أولم تؤمن قال بلي ولكن ليطمئن قلبي( أخرجه الشيخان, واللفظ للبخاري).
فالسبب في سؤال نبي الله وعبده إبراهيم ـ عليه السلام ـ هو حبه العميق للانتقال بنفسه من مرحلة علم اليقين إلي مرحلة عين اليقين بالرؤية المباشرة, خاصة أنه قد وصف ربه في جداله مع الملك الكافر مدعي الربوبية قبل ذلك بآيتين( في الآية رقم258) من السورة نفسها قائلا:
ربي الذي يحيي ويميت... فأراد أن يري عملية الإحياء من الموت رأي العين, وأن يري طلاقة القدرة الإلهية بعينيه, ويلمسها بيديه حتي يستطيع الدفاع عنها بأقوي ما يملك من الحجة البالغة والمنطق الذي لا يرد, رغم إيمانه العميق وتسليمه الكامل بأن الله ـ تعالي ـ علي كل شيء قدير.
فسأله الحق ـ تبارك وتعالي ـ قائلا: أولم تؤمن فرد علي الفور: قال بلي ولكن ليطمئن قلبي.
فأمره الله ـ تعالي ـ بأن يأخذ أربعة من الطير فيقربهن منه, ويميلهن إليه حتي يتعرف عليهن, وعلي مميزات كل طائر منهن فلا يخطئه إذا عاد إليه, ثم أمره الله ـ تعالي ـ أن يذبح هذه الطيور الأربع, وأن يقطع أجسادهن, ويفرق تلك القطع علي قمم الجبال المحيطة به, ثم يدعوهن فتتجمع قطع أجسادهن الممزقة مرة أخري, وترتد إليهن الحياة, ويعدن إلي نبي الله إبراهيم, وقد تحقق ذلك بالفعل, فرأي نبي الله إبراهيم رأي العين كيف يحيي الله الموتي, ورأي صورة من صور طلاقة القدرة الإلهية التي لا تحدها حدود, ولا يقف أمامها عائق.
ومن الغريب أن نبي الله إبراهيم الذي تعرف علي خالقه من خلال التأمل في بديع صنع الله في الكون هو الذي يسأل هذا السؤال, وهو سؤال لم ينطلق من منطلق الشك كما أشرنا, ولكنه تشوق المحب لربه, المؤمن بطلاقة قدرته أن يري جانبا من هذه القدرة الإلهية يتحقق أمام عينيه. وهذا الشوق إلي مزيد من التعرف علي قدرة الله البالغة يتحرك في قلوب وعقول الكثيرين من عباد الله الصالحين لا شكا في الأمر, ولكن رغبة في المزيد من اليقين الحسي, الذي يزيد العبد تعرفا علي شيء من صفات الله الخالق البارئ المصور, حبا له وتقربا منه بمزيد الإيمان به عن طريق التعرف علي المزيد من طلاقة قدرته, وهذا لا يشكك في استقرار الإيمان وثبوته, ولا في تمام اليقين ورسوخه, ولكنه بلوغ اليقين الحسي عند المؤمن الذي آمن بالغيب, خاصة عند واحد من أولي العزم من الرسل, عند خليل الرحمن, وأبو جيل من الأنبياء الكرام الموصولين بالله ـ تعالي ـ, وهل بعد إيمان الأنبياء إيمان؟ وهل إيمان أمثالهم يحتاج إلي برهان؟ ولكنه الشوق لمشاهدة طلاقة القدرة الإلهية المبدعة وهي تعمل المعجزات التي لا يقوي علي مثلها أحد من المخلوقين.
ومن مبررات هذا السؤال الذي سأله نبي الله إبراهيم لربه أن قضية البعث بعد الموت كانت عبر التاريخ, وحتي اليوم, وإلي أن يشاء الله, هي حجة الكفار والمتشككين, وذريعة الضالين الضائعين من بني الإنسان, إما لكفرهم بالله ـ تعالي ـ أو لقياسهم الخاطئ علي الله بمعايير البشر, والمنطق السوي يقول بتميز الخالق علي المخلوق بقدرات وصفات لا يمكن للمخلوق أن يتصورها, لأنها فوق قدرات عقله وحسه, ومن هنا كان من ركائز العقيدة الإسلامية تنزيه الله ـ سبحانه وتعالي ـ عن جميع صفات خلقه, وعن كل وصف لا يليق بجلاله.
ومن هنا سخر القرآن الكريم من دعوي المتشككين في أمر البعث وأورد في الرد عليهم الشيء الكثير الذي نختار منه الآيات التالية:
(1) وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين( الأنعام:29).
(2) وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه علي الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين (هود:7).
(3) وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلي وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون (النحل:38).
(4) وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا( الإسراء:49).
(5) ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا( الإسراء:98).
(6) ثم إنكم يوم القيامة تبعثون( المؤمنون:16).
(7) إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين( المؤمنون:37).
(8) قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون( المؤمنون:82).
(9) أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون( الصافات:16).
(10) وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون( الواقعة:47).
(11) زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلي وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك علي الله يسير( التغابن:7).
(12) وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا( الجن:7).
ومن هنا كان رجاء نبي الله إبراهيم من الله ـ تعالي ـ أن يريه طلاقة القدرة الإلهية في هذا الأمر الذي يشهد به الخلق كله إلا عصاة الإنس والجن. فالمتأمل في الكون المادي من الذرة إلي المجموعة الشمسية إلي المجرة, فالتجمع المحلي, ثم التجمع المجري, ثم التجمع المحلي الأعظم, فالتجمع المجري الأعظم, ثم الكون المدرك كله, يري في ضخامة البناء ووحدته, وفي دقة الأداء وانتظامه ما ينفي احتمال العشوائية أو الصدفة, ويؤكد التدبير والحكمة, ويشهد للخالق ـ سبحانه وتعالي ـ بالألوهية والربوبية والوحدانية المطلقة فوق جميع الخلق الذين أوجدهم الخالق ـ سبحانه وتعالي ـ في زوجية كاملة( من اللبنات الأولية للمادة إلي الإنسان) حتي يبقي ربنا ـ تبارك وتعالي ـ متفردا بالوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه.
وكذلك المتأمل في الأحياء من الكائنات وحيدة الخلية( النباتية والحيوانية) عبر أكثر من مليون نوع من أنواع النباتات, وأكثر من مليون ونصف المليون نوع من أنواع الحياة الحيوانية حتي يصل إلي كمال الخلق في الإنسان, فإنه يدرك تمام الإدراك استحالة أن يتكون بمحض الصدفة جزيء واحد من عشرين جزيئا من جزيئات الأحماض الأمينية التي تنبني منها مئات الآلاف من جزيئات البروتين التي تتكون منها الخلية الحية, هذا فضلا عن تعقيد بناء الخلية الحية بصورة تفوق أكبر المصانع التي بناها الإنسان, بل التي فكر في إنشائها ولم يتمكن من ذلك بعد, فما بالنا بمائة تريليون( مائة مليون مليون) خلية حية في جسد كل فرد من بني آدم( في المتوسط) من الخلايا المتخصصة التي تنتظم في أنسجة, وأعضاء, وأجهزة, ونظم متخصصة تتعاون كلها في تناغم مذهل من أجل مصلحة الجسد الذي يحملها.
وذلك كله مما يشهد لحقيقة الخلق, ولطلاقة قدرة الخالق ومشيئته بلا حدود ولا قيود, كما يشهد للخالق الذي أبدع هذا الخلق من العدم بالقدرة علي إفناء خلقه وعلي إعادة بعثه.
وقد شرح رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ عملية البعث بعد الموت في عدد من أحاديثه الشريفة التي منها ما يلي:
(1) كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب, منه خلق وفيه يركب( صحيح مسلم).
(2) وليس من الإنسان شيء إلا يبلي إلا عظما واحدا هو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة.
(3) ما بين النفختين أربعون... ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل. ليس من الإنسان شيء إلا يبلي إلا عظما واحدا هو عجب الذنب, ومنه يركب الخلق يوم القيامة( صحيح البخاري).
وتشير هذه الأحاديث إلي أن سر الإنسان يتركز في عظمة واحدة في حجم حبة الخردل بنهاية عموده الفقري( العصعص) سماها رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ باسم( عجب الذنب), وكل ما زاد علي ذلك من البناء الجسدي الذي ينمو من كل من عناصر الأرض ومائها يعود بعد موت الإنسان من حيث أتي إلي تراب الأرض ومائها, ويبقي عجب الذنب ليعيد الله ـ سبحانه وتعالي ـ بعث كل مخلوق حي منه في يوم البعث.
ولذلك قال ـ تعالي ـ: قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ( ق:4).
وعلي الرغم من توضيح رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ هذه السنة الكونية إلا أن إرادة الله ـ تعالي ـ لا تحتاج إلي هذه السنن لقوله ـ عز من قائل ـ: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون* فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون( يس:83,82).
وهكذا رأي نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ صورة من صور طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في قضية الخلق أمرا واقعا بين يديه, والحياة والموت يتكرر حدوثهما في كل لحظة من لحظات هذا الوجود, ولا يري الناس من ذاك إلا آثاره البادية لهم, فيؤمن من يؤمن, ويكفر من يكفر, ويبقي إيجاد الحياة من العدم وإفناؤها إلي العدم, والقدرة علي إعادة بعثها من جديد واحدة من أعظم الشهادات علي طلاقة كل من الإرادة والقدرة الإلهية اللتين لا تحدهما حدود, ولا يقف أمامهما عائق.
ومن أوجه الإعجاز التاريخي والعلمي البينين في الآية التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال أن يفصل القرآن الكريم هذه الواقعة التاريخية المهمة في حياة نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ ولم يرد لها ذكر في كتب الأولين, ومن الغريب حقا أن يتطاول أهل الباطل بالادعاء الكاذب الذي أشاعوه وملأوا به أسماع أهل الأرض بأن القصص القرآني منقول عن كتب الأولين, وهذه هي الواقعة الكبري الثالثة التي تبطل هذا الادعاء الكاذب من أساسه, وذلك من بين عشرات الوقائع والأحداث التي أوردها القرآن الكريم في تاريخ نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ( وسبق أن عرضنا منها كلا من واقعة رفع القواعد من البيت وحوار إبراهيم ـ عليه السلام ـ مع الملك الذي ادعي الربوبية في زمانه) ولم يشر أي من كتب الأقدمين إلي شيء من ذلك, علي الرغم من ورود ذكر إبراهيم ـ عليه السلام ـ عشرات المرات في عدد منها.
وإيراد مثل هذه الواقعة التاريخية في كتاب الله بصيغة علمية وأدبية رصينة لما يشهد لهذا الكتاب العزيز بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية, بل هو كلام الله الخالق, الذي أنزله بعلمه, علي خاتم أنبيائه ورسله, وحفظه بعهده الذي قطعه علي ذاته العلية, في نفس لغة وحيه( اللغة العربية), وتعهد بهذا الحفظ تعهدا مطلقا, وقد تحقق هذا الحفظ علي مدي زاد علي أربعة عشر قرنا من الزمان, وسوف يظل القرآن الكريم محفوظا بحفظ الله ـ تعالي ـ إلي ما شاء الله, حتي يبقي شاهدا علي الخلق أجمعين بأنه كلام رب العالمين..
فالحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي نعمة القرآن, والحمد لله علي بعثة خير الأنام سيدنا محمد بن عبدالله ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
من أسرار القرآن
بقلم:د. زغلـول النجـار